من ذاكرة الوطن
كنت أشاهد قناة ماسبيرو زمان وكان تقوم بعرض برنامج النادي الدولي الذي كان يقدمه الفنان سمير صبري، وتعجبت عندما وقعت عينياي على التلفاز ووجدت ضيفة الحلقة سيدة ترتدي إيشارب يغطي شعرها وهي إحدى الصور المنشورة مع الموضوع، وتأملتها فلم أجدها فنانة معروفة كما كان يستضيف سمير صبري دائما في هذا البرنامج، فانتبهت أكثر لأعرف من هذه السيدة التي لم أرتح لنظراتها من أول لحظة، وشعرت بالريبة تجاهها بشكل عجيب رغم محاولة إظهار الإنكسار الشديد، وبعد وقت قليل فهمت من كلامها أنها كانت عميلة لصالح إسرائيل في فترة ما بعد نكسة 1967و حتي 1976و تم كشفها عن طريق المخابرات المصرية، وحكم عليها بالإعدام، وبعد ثلاث سنوات تقريبا قضتها في السجن، حصلت على إفراج رئاسي لأنها قدمت التماس بالعفو كما قالت في البرنامج، وقد أبدت ندما شديدا على ما فعلت وقالت أنها الآن تصلي وتقرأ القرآن وتحمد الله على إنقاذها من الموت المحقق بعد أن كانت على حافة الإعدام وتنتظره في أي لحظة، وتحدثت عن أولادها وانهارت باكية دليلا على ندم شديد وعندما قال لها سمير صبري هل ستخوني مصر ثانية يا مدام إنشراح؟ قالت لا طبعا وأحذر الجميع من هؤلاء الكذابين الذين لا وعد لهم ولا ذمة وتقصد الإسرائيليين. وأخذت تمدح في رجال المخابرات المصرية وتشيد باحترامهم في التعامل معها وحثها على التوبة والتقرب من الله.. كل ذلك وأنا لا أصدق كلمة لهذه السيدة التي أعترف أنني لم أسمع عنها من قبل ربما لتقصير مني أو انشغالي دائما بقراءات أخرى والإكتفاء بمعرفة بعض قصص الجاسوسية المشهورة، وكلما نظرت لعيناها أثناء الحديث استشعرت فيهما الكذب الشديد، ورأيتهما تمتلآن بالخيانة والخبث، وأيضا لم أقتنع بالرواية ككل وحتى طريقة الإفراج عنها، ولذلك قررت البحث عن هذه السيدة التي عرفت أن اسمها انشراح موسى من مواليد المنيا سنة1937، وقرأت قصتها كاملة من أكثر من مصدر، والتي أكدت لي صدق إحساسي تجاه هذه الجاسوسة التي لم تندم فعليا كما ادعت، ولكنها كانت حلقة أخيرة من حلقات مسلسل الجاسوسية التي قامت به قبل سفرها إلى إسرائيل برفقة أولادها الثلاثة بعد الإفراج عنها، واتضح أنها كانت زوجة لمصري يدعى إبراهيم شاهين مواليد العريش سنة 1929 و كان جاسوسا لإسرائيل وقام بتجنيد زوجته التي كانت مستعدة منذ اللحظة الأولى بل ربما كانت هي أكثر استعدادا منه هو شخصيا، ثم أطفاله بعد ذلك وسقطت هذه الأسرة بالكامل في بئر الخيانية، وكان ذلك من أجل مغريات جعلتهم يعيشون عيشة الملوك كما ذكر إبنهم عادل لإحدى الصحف الإسرائلية أثناء حوار صحفي، وذلك بعد فقر مدقع عانوا منه عقب النكسة حيث كانوا يعيشون في العريش بلد الزوج والتي تم تجنيدهم فيها قبل الإنتقال إلى القاهرة، حيث كان قد فصل إبراهيم من وظيفته بسبب تقاضي رشوة، مما جعله لقمة سائغة وسهل عملية تجنيده، وضبطوا جميعا المخابرات المصرية في عملية غاية في الروعة والإحكام سجلت في تاريخها وكانت صفعة قوية للموساد، حيث تم القبض على الزوج أولا وكانت زوجته خارج مصر لإحضار مفتاح لجهاز الشفرة الذي اكتشفوا أن به عطل عند محاولة تجربة تشغيله و كان الجهاز سببا في الإيقاع بهم وقد أعطته المخابرات الإسرائيلية لإبراهيم شاهين بعد هزيمتهم الساحقة سنة 1973 وكان ثمنه حوالي 100 ألف دولارا وقالوا له أنه أحدث جهاز ولا يمكن تتبعه وكشفه، ولكن المخابرات إستطاعت رصده وتحديد مكانه بدقة، ولم تعلم المخابرات الإسرائيلية بالقبض على إبراهيم حتى عادت إنشراح إلى مصر وفوجئت برجال المخابرات يدخلون المنزل خلفها ويضبطوها قبل التخلص من المفاتيح التي أحضرتها معها، وصدر على الزوجين الحكم بالإعدام بينما حكم على ابنهم الأكبر بالسجن والإثنين الأخرين بدخول الأحداث، وقد تم تنفيذ حكم الإعدام بحق إبراهيم شاهين سنة 1977 بينما تم تأجيل تنفيذ الحكم في حق زوجته انشراح موسى من خلال مفاوضات تمت من جانب الطرف الإسرائيلي مع القيادة في مصر آن ذاك، ويبدو هنا أن العلاقة الجنسية التي أقامتها الجاسوسة مع ضابط المخابرات الإسرائيلي الذي كان يتولى التعامل معهم خلال سفرها لروما بدون زوجها لمقابلته في أحد المرات ثم توالت الزيارات حتى داخل إسرائيل في المرة الأخيرة جاءت بنتيجة جيدة بالنسبة لها، وجعلتها أكثر حظا من زوجها الذي ترك لينفذ فيه حكم الإعدام، ومن خلال صفقة لتبادل الأسرى تم الإفراج عنها ثم غادرت إلى إسرائيل مع أولادها كما ذكرت آنفا، واعتنقوا جميعًا اليهودية، وغيرت اسمها لـ«دينا بن ديفيد»، وعملت طباخة هناك، كما غير أبناؤها نبيل ومحمد وعادل أسماءهم لتصبح بالترتيب يوسي وحاييم ورافي.. وهنا يتضح أن الذي يخون بلده مرة لا أمان له ولا عهد مهما أبدى من ندم، لأن خيانة الوطن ليست مجرد جرم يرتكبه الإنسان وإنما تكون موجودة في جيناته يولد بها وينتظر الفرصة حتى ينميها ويمارسها فعليا. تقرير/السعيد حمدي.