عين العقل ... تنوير المستنيرين
تابعت باهتمام الأستاذ الجامعى المستنير وهو يصول ويجول على الشاشة متحدثا عن التنوير الذى يحمل لواءه، وأحصيت وراءه كلمة " التنوير " التى يرددها ومضيفه الإعلامى حتى أرهقنى العد، لكننى لم أقف منه على مشروع تنويرى متماسك، كان الرجل منتشيا فقط بجرأته فى الهجوم على الأزهر وشيخه وتحقير التراث وتسفيه المادة الثانية من الدستور، بينما مضيفه يفسح أمامه الطريق لمزيد من الهجوم والتحقير والتسفيه، لم يراجعه فى كلمة إلا ليحصل على ماهو أكثر، ولم يستعن بمن يرد عن الغائبين غيبتهم كما تقضى الأعراف الإعلامية، فبدا الأزهر مستباحا على الملأ، وكذلك الشيخ الجليل والتراث والمادة الثانية من الدستور. ليست هذه هى المرة الأولى بالطبع التى يطرح فيها كلام كثيرعن التنوير دون ممارسة فعل التنوير ذاته، أو تقديم مشروع حقيقى للتنوير قابل للحوار، وليس الأستاذ الجامعى هو الوحيد الذى يخوض فى عرض الأزهر والتراث والمادة الثانية من الدستور على الشاشة، فهناك توجه معروف لفصيل يحتل مساحات شاسعة فى الإعلام المرئى والمسموع والمقروء، يستهدف طمس الروح المصرية وتغيير هوية الدولة باسم الاستنارة، وباسم مشاريع التنوير المزيفة. كانت مقدمة هذا التوجه التخريبى السخرية من التراث واللغة العربية، ومن التدين والمتدينيين والاحتفاء بأكاذيب المستشرقين الكارهين للإسلام وأهله، والتعامل معها على أنها حقائق علمية لاترد، ثم التشكيك فى السنة النبوية المطهرة، والنيل من الصحابة وتشويه البخارى وكتب الصحاح، حتى وصل الأمر أخيرا بأحد هؤلاء المستنيرين الممقوتين إلى التشكيك فى القرآن الكريم ذاته لنزع القداسة عنه، والادعاء بأن " فيه نظر"، و " مختلف عليه "، وأن " لدينا قرآنان وليس قرآنا واحدا ". تتعدد منابر المستنيرون لكنها تتفق فى النيل من كل ماهو إسلامى، وباسم حرية الرأى والتعبير تطفح الشاشات كل يوم وكل ساعة بما يطعن فى الدين الذى يقول عنه الدستور أنه " الدين الرسمى للدولة "، ومشروعهم واضح للعيان، فالبخارى مدلس ومزور ودموى، والصحابة كاذبون ولصوص، وأحاديث الرسول لاتصلح أساسا للتشريع، فقد طالها الكثير من عبث العابثين، والقرآن محرف، هناك آيات ناقصة وآيات زائدة، وهناك تعديلات أموية !! ثم .. ماذا بعد كل هذا الغثاء ؟!.. أين مشاريع التنوير؟! لاشيء..فالهدف هو التخريب والهدم، لا البناء والتطوير والتجديد بما يفيد الوطن والمواطن، الهدف أن تظل معاركنا مستمرة وحرائقنا مشتعلة، ونظل حائرين هائمين فى بحار التشكيك، لانصل إلى شاطئ اليقين والاستقرار، مغيبين عن الحاضر وتحدياته، حروبنا تدور حول الماضى، فلا ننظر إلى المستقبل وقضاياه وأدواته. ولا يقل عن هذا السوء سوءا أولئك المتنطعون فى الدين، الذين يتمسكون بالشكل دون الجوهر، ويغرقون فى التفسيق والتكفير، وتضج منابرهم من أحاديث الغيبيات والأساطير التى يسوقونها لحمل الناس على كراهية الحياة، ويكاد خطابهم ينحصر فى إطلاق اللحى وقص الشارب وتقصير الثوب وتعدد الزوجات وقوامة الرجال، وغير ذلك من قضايا تفريغ الدين من مضمونه. ولو حسنت النيات، واتجهت بوصلتنا إلى مايرضى الله وينفع الناس ويمكث فى الأرض لوقفنا جميعا وراء مشروعات التنوير التى طرحها الأزهر الشريف وشيخه فى العديد من المواثيق التى صيغت بلغة رصينة وفكر راق وضمير حى، تحترم الدستور والقانون، وتمثل الروح المصرية الوسطية التى لاتبتغى غير وجه الله ورفعة الوطن ومصلحة المواطن، وفى ذات الوقت لاتغلق باب الاجتهاد لمن أراد أن يقدم مشاريع مماثلة أو مكملة، شريطة ألا تخرج عن ثوابت الدين وإجماع الأمة. كفانا تشتيتا للعقول والجهود وتضييعا للوقت فيما لاطائل منه، كفانا ضغطا على الشباب الذى تمزقه الصراعات فيكاد يكفر بكل قيمة جميلة وكل شيء حوله، كفانا عبثا بماضينا وحاضرنا ومستقبل أبنائنا، وتعالوا إلى كلمة سواء، تعالوا إلى اتفاق على الثوابت التى تجمع ولا تفرق، ولا تبدد الطاقات فى خلافات هزلية وقضايا صارت خارج العقل وخارج التاريخ. مارأيكم فى مشروع للتنوير الحقيقى يجمع شتات الوطن بكل أبنائه واتجاهاته، وكل من أراد أن يمد يده للبناء والتطوير والتحديث، اليمين واليسار، العلمانى والدينى، المسلم والمسيحى، السلفي والصوفي، أنصار الأصالة وأنصار المعاصرة، مارأيكم فى مشروع يقوم على ثلاثة أعمدة حضارية لاخلاف عليها : المعرفة، وكرامة الإنسان، والتكافل الاجتماعى . هذه الأعمدة الثلاثة مستمدة من الرسالات السماوية، وأيضا من حصاد الفكر الإنسانى فى أرقى تجلياته ، وقد وردت واضحة جلية فى القرآن الكريم ، فالمعرفة ( العلم ) أمر إلهى كما أنها مطلب إنسانى وحضارى ، وكانت بداية التنزيل بـ" إقرأ باسم ربك "، ثم : " وعلم آدم الأسماء كلها "، و " الرحمن، علم القرآن، خلق الإنسان، علمه البيان"، و" وقل ربى زدنى علما "، وقد أقسم ربنا جل شأنه بأول أدوات المعرفة : " ن. والقلم وما يسطرون ". ووردت الكرامة الإنسانية فى قوله تعالى : " فأما اليتيم فلا تقهر، وأما السائل فلا تنهر "، وقوله : " ولقد كرمنا بنى آدم "، واحترام كرامة الإنسان تعنى المساواة بين الناس فى الحقوق والواجبات، وحفظ حقوقهم وحرياتهم، ومنها حرية الرأى والتعبير، وتوفير العدالة الكاملة للجميع، ورفض التعصب والتمييز بينهم على أساس العرق أو الدين أو المذهب، وقد قال تعالى : " لاإكراه فى الدين ". أما التكافل الإجتماعى فهو الهدف الأسمى للزكاة والصدقات، وهو ليس منة بل فرض، لكى لايكون فى بلادنا جائع أو عريان أو عاطل أو مشرد بلا مسكن، يقول تعالى: " خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها "، ويقول " والذين فى أموالهم حق معلوم . للسائل والمحروم ". هذا مشروع تنويرى وطنى إنسانى شامل متكامل، ليس مقطوع الصلة بالدين، لكنه عابر لخلافات الأديان والمذاهب والأيديولوجيات، تعالوا نتفق.