اغتالوها بحد الخاتم يا ناتان!
نشرت منذ بضعة أيام عبر حسابي على "فيسبوك" صورة لطفلة صغيرة أسرتني برقتها وبراءة ابتسامتها ولمعان عينيها الرائقتين. لم أكن أعلم أن نشر هذه الصورة "البريئة" للطفلة سيشعل ساحة من النقاش المحتدم، وسيضطرني إلى محاولة إخماد نيران التعصب التي اشتعلت على حائطي الفسيبوكي. ما حدث أن تلك الطفلة الصغيرة التي لا يتجاوز عمرها أكثر من أربع سنوات كانت ترتدي في عنقها رمزًا دينيًا؛ كانت ترتدي صليبًا. لم يستطع بعض من شاهدوا الصورة أن يضبطوا زاوية الرؤية الإنسانية للطفلة الصغيرة، التي لا زالت تحتفظ بفطرتها المنطوية على محبة الآخر والتي لا تعرف بعد معنى التعصب والتمييز والإقصاء، وراحوا يوجهون اللوم لي على نشر صورة مثل هذه، بل ووصل الأمر إلى التشكيك في كوني مسلمة.
سأكون منصفة حين أذكر أن أولئك الذين انضموا معي إلى ساحة النقاش وجابهوا بإنسانيتهم وحكمتهم الفريق الإقصائي المتعصب كان لهم بالغ الأثر في إنهاء المعركة لصالح الطفلة، بل لصالح الفطرة الإنسانية السليمة.
استطاع الحكماء من أصدقائي في هذا العالم الافتراضي التصدي معي لهذا التيار المتواجد على منصة التواصل الاجتماعي "فيسبوك". هؤلاء الحكماء أدركوا أن ثمة تيارات تقتحم تاريخنا الثقافي والاجتماعي والديني، تحاول أن تشوهه وتغلفه بالطائفية. إنهم يدركون أيضا أن مثل هذه التيارات تتحدث بنبرة استعلائية وبمفاهيم كلاسيكية خاطئة، محاولة فرض سياج من العزلة بيننا وبين أتباع الديانات الأخرى لإقصائهم من الوصال الإنساني المشروع، ولمصادرة مفهوم المواطنة.
ثمة مشكلة كبيرة تعرضت لها أيضا سيدة مسيحية من دولة أوروبية، متزوجة من مصري مسلم ولديها ابنة في بداية العقد الثاني من عمرها؛ عادت الابنة ذات مرة من المدرسة تبكي لأمها بمرارة وتخبرها بأن زميلاتها في المدرسة أخبرنها بأن أمها كافرة وبأن علاقتها بها لن تتجاوز الدنيا إلى الآخرة، فهي مخلدة في النار لا مفر لها ولا ملجأ. استغاثت بي السيدة كي أعينها على تخفيف الوجع الذي أرَّق فتاتها، ووضعها في موضع المذنب المدان المغضوب عليه أمامها، وهي الأم والموجه والقدوة.
حين سمعت حديث السيدة عمن أوجعوا ابنتها بحكهم على أمها بالكفر تذكرت مقولة الإخواني الإرهابي وجدي غنيم" إن المسيحيين كفار لا يجوز تهنئتهم بمناسباتهم الدينية"، وكذلك مقولات المنتسبين إلى المدرسة الوهابية المؤسسة للفكر الإقصائي المتطرف والرحم الذي خرجت منه السلفية الجهادية المستبيحة لدماء الأبرياء وحرمة الدماء البشرية. جمعتُ المشهدَ كلَه في سلة واحدة؛ سلة باتت معروفة لنا جميعا بسقم فكرها، وضبابية منهجها، الداعي إلى نبذ الغير واغتياله معنويا وجسديا. هؤلاء وغيرهم ممن لا يعترفون بخصوصية الاعتقاد ولا يحترمون قناعات المختلف ولا يخجلون من المساس بمقدساتهم وأرواحهم؛ ينصبون أنفسهم آلهة تثيب وتعاقب، تصنف وتكفر.
والحقيقة أنهم حين هاجموا صورة طفلة بريئة مرتدية للصليب وحين حاولوا إفساد علاقة الفتاة الصغيرة بأمها غير المسلمة، فعلوا ذلك عن جهل مستحكم بالأساس الفكري لتسامح المسلمين مع ذوي الديانات الأخرى؛ هذا الأساس الذي يستند أولا إلى إقرار كرامة الإنسان واحترامه أيا كان دينه أو لونه أو جنسه، وإلى اليقين بأن مشيئة الله وسنته في جعل الناس مختلفين لا راد لها ولا معقب، وأننا لا نملك إجبار أحد على تغيير معتقده. مشاهد عدة يحفل بها تاريخنا الإسلامي، توثق كل ما سبق وتؤكد على إعلاء مبدأ الأخوة الإنسانية فوق كل اختلاف، باعتباره القاسم المشترك المعتبر في كل الأديان.
ما أحوجنا الآن لإقامة علاقات واقعية صادقة، تكسر الحاجز النفسي ونوازع الأنا الضيقة، وتنسف الممارسات اللاغية للآخر والمحقرة لكينونته! لن يتأتى لنا ذلك إلا بكلمة سواء، حقلها هو العقل المحاور الذي يقر بمضامين احترام حرية الآخر في الاعتقاد، والتسليم بحتمية التعدد وفضله في الثراء الحضاري للأمم والشعوب.
كيف يمكننا أن نقتلع جذور تلك الأيدلوجيات الكارهة للحياة والمعطلة لثقافة التعايش مع المختلف؟ وكيف يمكننا أن نفرض واقعا جديدا يأخذنا بعيدا عن النقاشات والسجالات العقيمة؛ واقع تتعايش فيه الأديان ويتقارب فيه أتباعها دون تمييز أو تعصب أو كراهية؟
مَن القادر إذا على تغيير الصورة النمطية والأحكام المسبقة عن الآخر المختلف دينيا؟ هل الخطاب الديني وحده؟ بالطبع لا، لم يعد الفكر الديني هو الرافد الوحيد القوي الذي نستقي منه معارفنا الدينية وقيمنا المجتمعية؛ أدوات كثيرة فاعلة تزاحم الدين في تلك المهمة وتبسط سلطانها عليه؛ من بينها لغة الإعلام ولغة الفن والأدب. كلهم مجتمعون يستطيعون أن يصلوا بنا إلى أملنا المنشود، والمنتج الأدبي الإنساني-بالتحديد- في ماضيه وحاضره قادر على تشكيل وعي إنساني عميق وشامل ومؤثر، يمكنه تصوير الظواهر الإنسانية بمنأى عن الرؤى الأحادية.
لم أجد مثالا أسوقه هنا وأنا أبحث عن معالجة لقضية التعامل مع المختلف دينيا عبر لغة الأدب أفضل من رائعة الأديب التنويري الألماني ليسينغ، ممثلة في مسرحيته "ناتان الحكيم". كم تمنيت أن أجد هذا العمل الأدبي الإنساني متصدرا بروموهات عروضنا المسرحية في المسارح القومية وغيرها، وكم حلمت بأن يقرأ صغارنا تلك القصة المسرحية بما فيها من رموز وفلسفات ليست عصية على الفهم، لأنها تمس حالة صحية تألفها النفس وترنو إلى تحصيلها وتدفعنا طائعين للتخلي عن الأحقاد والضغينة والكراهية والنزعة لإقصاء الآخر والقضاء عليه.
أجاب ليسينغ في مسرحيته عن السؤال الأكثر تعقيدا، من خلال إجابة اليهودي ناتان الحكيم عن سؤال صلاح الدين الأيوبي: ما هو الدين الصحيح؟ حسم "ناتان الحكيم" القضية حين أحالها إلى قصة الخواتم الثلاثة، غير منحاز لدين دون آخر؛ كل منا لديه خاتمه ويتصور أنه يمتلك الأصل وما عاداه تقليد، لدى كل منا يقين أنه وحده هو الذي يملك الحقيقة المطلقة؛ لكنها قناعة يحتفظ بها كل منا في تصوره عن خاتمه دون أن يتعرض لخاتم الآخر بالتحقير أو التشويه. إجابة مريحة تصلح أن تكون ردا رادعا على ادعاءات المؤدلجين دينيا، وقولا فصلا يغلق باب التنطع فيي وجوههم.
كون ليسينغ أوروبي مسيحي لم يمنعه من أن يتحدث عن القائد المسلم صلاح الدين الأيوبي بكل الصفات الطيبة؛ فهو حاكم مسلم متسامح وكريم وعادل، استطاع أن يؤاخي بين أتباع الديانات الثلاث في بلاد المقدس وساوى بين فقرائهم في توزيع الهبات، وحمى دور العبادة دون تمييز أو اضطهاد. استطاع ليسينغ -الذي لم يزر الشرق يوما- أن يحسن صورة الشرقيين لدى الغربيين واستطاع أن يزيل في رائعته الأدبية صفة البربرية التي كانت تلصقها أوروبا بالمسلمين آنذاك، فصلاح الدين الأيوبي القائد الإسلامي العظيم حاور اليهودي وانبهر بجوابه، واقترض منه مالا كان بحاجة ملحة إليه، وهو نفسه من عفا عن فارس المعبد المسيحي ومد يد العون له.
صاغ ليسينغ- دراماتورجي الإنسانية- نصا أدبيا في القرن الثامن عشر يتناول فيه قضية تعدد الأديان والصراع بين أتباعها، وصور من خلاله كيف اجتمعت الأديان وتعايشت في بلاد المقدس في ظل حكم قائد مسلم عادل لا يقصي أحدا ولا يزدري دينا. ما أحوجنا ونحن في القرن الواحد والعشرين إلى هذا المذهب الإنساني الرائع المتسق مع مبادئ ديننا السمح الذي يحتم علينا أن يعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه، وأن نشكل بتنوعنا وتفاوت قدراتنا لوحة جميلة من الفسيفساء، تتلاحم في نسق إنساني متلاحم ومتكامل متجاوزة التعصب والتمييز.